كلمة الأمين العام للحزب الشيوعي اللبناني حنا غريب في اجتماع الأحزاب الشيوعية والعمالية العالمي في أثينا – اليونان في 23-25 تشرين الثاني 2018.
حضرة أمين عام الحزب الشيوعي اليوناني، والأمناء العامون وأعضاء قيادة الأحزاب الشيوعية والعمالية المجتمعون اليوم في أثينا. الرفاق الأعزاء:
نجتمع اليوم لبحث الموضوعات السياسية والفكرية التي تندرج في سياق شعار اللقاء العشرين للأحزاب الشيوعية والعمالية: "الطبقة العاملة المعاصرة وتحالفاتها: مهام الأحزاب الشيوعية في النضال ضد الاستغلال والحروب الامبريالية – من أجل حقوق العمال والشعوب – من أجل السلام والاشتراكية".
ايها الرفاق،
على الرغم مما أصاب الحركة الشيوعية في العالم إثر انهيار المنظومة الاشتراكية بقيادة الاتحاد السوفياتي، وتفكك أحزاب كبيرة وانزياح كتل سياسية وازنة نحو اليمين، والنشوة التي عاشتها الرأسمالية بقيادة الولايات المتحدة الأميركية معتقدةً أنّها قد هزمت خصمها الطبقي إلى الأبد، وأنّها قد كتبت نهاية التاريخ بانتصار المستغِلين على المستغَلين، والرأسمالية على الاشتراكية، على الرغم من هذه النكسات، لم نيأس ولم نتراجع ولم نستسلم لا فكرياً ولا سياسياً. وعلى العكس، ورغم الصعوبات، استمرت الأحزاب الشيوعية والاشتراكية في نضالها السياسي لأنّها استشرفت الأزمات القادمة للرأسمالية، وحتمية الصراع ضدها من أجل التحرر الوطني ومن أجل الاشتراكية والخلاص من نظام الاستغلال. وخلال ثلاثة عقود، أثبتت الأحداث صحة رؤيتنا المشتركة حول ضرورة استمرار المواجهة، وحول إمكانية هزيمة الرأسمالية، وحول أنّ التاريخ لم ينتهي، إذ ما لبثت الرأسماليةأن تعرضت لأزمات شديدة كان أقواها في العام 2008، وهي أعمق أزمة رأسمالية منذ الكساد العظيم عام 1929، وما زلنا نعيش ارتداداتها حتى اليوم. إن الأزمة هذه المرة حقيقية ليس فقط بوصفها تعبّر عن مرحلة غير مسبوقة من مراحل تعاقب دورات النمو الرأسمالي، ولكن لكونها أيضاً تعبّر عنعمق الأزمة الطويلة الأمد للنظام الرأسمالي. أولاً، فهي تتجلى في استنفاد "حل الكينزية" اذ ان تزايد المديونية العامة وانفلاش ميزانيات البنوك المركزية وتفاقم البطالة بات يقض مضاجع صناع السياسة في الدول الرأسمالية المتقدمة ويشل أدوات "إنقاذ الرأسمالية" في مواجهة ترسّخ الركود الطويل الأمد وفي مواجهة أية أزمة مالية قد تطرأ في المستقبل.
كذلك تواجه المنظومة الامبريالية المنتصرة بانتهاء الحرب الباردة وبتكريس عالم أحادي القطب بقيادة الولايات المتحدة الأميركية - ومعها حلفاء تابعون في الاتحاد الأوروبي واليابان ودول الناتو - تحديات جديّة مع الصعود السريع لأقطاب دولية أخرى منافسة وذات مصالح متناقضة مع الدول الامبريالية المهيمنة. وتسعى هذه الأقطاب، التي ليست في معظمها دولا او أقطابا اشتراكية، الى قيام نظام عالمي جديد متعدد القطبية وسط صراع يحتدم اليوم بأشكال وصيغ شتّى في هذه المرحلة الانتقالية. وهذا الصعود الذي يتمثل بشكل رئيسي في قوتين دوليتين هما الصين بقيادة الحزب الشيوعي الصيني، وإمكاناتها الاقتصادية الجبارة، وروسيا التي تستعيد اليوم قوتها العسكرية والسياسية - إضافة إلى قوى إقليمية في آسيا وأميركا اللاتينية وأفريقيا والى الحركات النقابية العمالية والقوى اليسارية - بدأ يشكل تحدياً فعلياً راهنا لمنظومة الهيمنة الأحادية التي تكرست منذ ثلاثة عقود، ممّا عمّق أزمة دول المركز الرأسمالي التي لم تعد قادرة على تطويع العالم، بكل دوله وشعوبه، كما كانت تفعل من قبل لحلّ أزماتها.
لهذه الأسباب، وكما في الأزمات الرأسمالية السابقة، اتّجهت الإمبريالية نحو تصعيد هجومها على شعوب العالم في داخل دول المركز الرأسمالي كما في الأطراف. إذ شهدت السنوات الأخيرة صعوداً كبيراً لقوى ذات طبيعة يمينية محافظة بل فاشية في العديد من الدول الأوروبية، ومعها صعدت ظواهر اليمين الشعبوي في دول أخرى، وتحديداً مع وصول ترامب إلى رئاسة الولايات المتحدة الأميركية. إذ عمدت دول الاتحاد الأوروبي إلى الانقضاض على حقوق العمال فيها من خلال خفض التقديمات الاجتماعية وتسريح الموظفين في القطاع العام وبيع الأملاك العامة وترسيخ التقشّف، وإخضاع سياساتها النقدية والمالية لصالح ضخ الأموال بحجّة إنقاذ المؤسسات المالية الكبرى على حساب حقوق الناس والعمال والفئات الشعبية. ودفعت شعوب أوروبا، وعلى رأسها الشعب اليوناني، ثمن هذه السياسات التي تتحمل مسؤوليتها بشكل رئيسي المؤسسات الرأسمالية الأوروبية التابعة للاتحاد الأوروبي وصندوق النقد الدولي، بالإضافة الى جزء من البورجوازية اليونانية نفسها الذي تورط في تهريب الأموال الى الخارج.
وعلى الصعيد العربي، صعّدت الدول الامبريالية من حروبها على منطقتنا، تحت عنوان مشروع الشرق الأوسط الجديد وركيزته التنفيذية الأساسية المتمثّلة في صفقة القرن، بهدف السيطرة على مراكز انتاج النفط والغاز والممرّات المائية وطرق الإمداد وشبكات الأنابيب، وصولا الى ضبط الدول الإقليمية الطامحة إلى لعب دور مشارك في سياسات المنطقة،وإلى قطع الطريق على الدول الصاعدة. وفي هذا السياق سارعت الولايات المتحدة إلى دعم الثورات المضادة ضد انتفاضات الشعوب العربية الطامحة إلى العدالة والمساواة والتحرر الوطني، من خلال دعمهاللتيارات الدينية السلفية والظلامية والجيوش والأنظمة الرجعية الحليفة بغية الإمساك بالسلطة كما حصل في تونس ومصر. كما دعمت الجماعات الإجرامية مثل داعش والنصرة مستفيدة من مفاعيل السياسات النيولبرالية التي اعتمدتها الأنظمة الممانعة، والتي أدّت الى افقار شعوبها وقمعها،وسهّلت تأجيج الانقسامات المذهبية والدفع بمشاريع التقسيم والتفتيت والتجزئة كما حصل خاصة في سوريا. وفي إطار تنفيذ مشروع صفقة القرن نفسه، أطلقت السعودية العنان لحروبها في المنطقة، بما فيها حربها الأجرامية ضدّ الشعب اليمني لإمساك السلطة فيه خوفاً من أية انتفاضات مناوئة، كل ذلك أدى الى عملية تدمير هائلة والى تهجير ونزوح الملايين من شعوبنا العربية بحثا عن مكان آمن.
كما ارتكزت السياسات الامبريالية على مواصلة الدعم اللامتناهي للكيان الصهيوني لتصفية القضية الفلسطينية على حساب الحقوق المشروعة للشعب العربي الفلسطيني وكل شعوب المنطقة حفاظا على تفوقه العسكري المهدد بفعل الهزائم المتتالية لعدوانه في لبنان وغزة مؤخرا ، وتعزيزا لقدراته على استمرار التدخل كوكيل لمصلحة الدول الامبريالية في ضرب أي محاولة تقدمية أو تحررية على امتداد منطقة الشرق الأوسط. وهي عمدت أيضاً إلى تشجيع كل أشكال التجزئة والتفتيت، فثبتّت تقسيم السودان بعد سنوات طويلة من الاقتتال، وأرست فدرالية هشّة في العراق، وتواصل اليوم عملها في هذا الاتجاه فيلبنان وسوريا لفرض أمر واقع يخدم مصالحها الاستراتيجية في مفاوضات الحل السياسي.
ويجب أن نشير الى أن هذه الهجمة تمتدّ أيضا على أوروبا الشرقية وأوكرانيا كما على أميركا اللاتينية التي بدأت تعود إلى عصر الفاشيات الأسود مع الانقلاب الأبيض الذي حدث في البرازيل والاكوادور وما يحاك ضد فنزويلا وغيرها، ناهيك عن عسكرة المحيط الهادئ ونقل الأساطيل الأميركية إلى هناك من أجل محاصرة الصين. ولم تكتفِ الولايات المتحدة بهذا الهجوم الواسع ضد شعوب العالم، إذ لجأت معه إلى سياسات العقوبات الأقتصادية والقيود والرسوم الجمركية وتوابعها، فبدأت بفرضها بشكل واسع ضد روسيا والصين، وتراجعت عن الاتفاق النووي مع إيران وأعادت العقوبات القاسية، وبدأت تنفّذ عقوبات جديدة تطال لبنان واقتصاده وليس فقط المقاومة .
ايها الرفاق،
نحن نعيش في "أرض خراب الرأسمالية" والمهام التي تواجه الأحزاب الشيوعية والعمالية العالمية عديدة. وبعد مرور مائة وعام علىثورة أكتوبر الاشتراكية العظمى نحن بحاجة إلى تطوير برامجنا السياسية والاقتصادية التي تأخذ بعين الاعتبار الظروف المادية الموضوعية البارزة أمامنا مستندين إلى النظرية الماركسية اللينينية والى كل التجارب الثورية والاشتراكية المستمرة في العالم والصامدة في مقارعتها اليوم للامبريالية،وفي تمسّكها بانجاح تجاربها في بناء الاشتراكية .
ايها الرفاق،
ان الحركة الشيوعية العالمية يجب أن تقدم نفسها، قوة موحدة سياسية وفكرية بديلة في مواجهة الرأسمالية كما في مواجهة اليمين والتطرف الديني والرجعيات والقوى المذهبية وأنظمة الاستبداد التي هرعتلترث الفراغات التي تركها فشل مشروع الرأسمالية النيوليبرالية.
نحن في الحزب الشيوعي اللبناني نتابع عن كثب وباهتمام كبير المسارات المختلفة نحو الاشتراكية في العديد من البلدان. ان هذه المسارات بكل إنجازاتها الكبيرة، وبما تنطوي عليه من مخاطر وتحديات كامنة، تمثل اختلافات داخل الوحدة، وهذه الوحدة هي وحدة هدف تحقيق الاشتراكية التي ستحل محل الرأسمالية وتنهي قروناً من القهر والاستغلال الطبقي. ويجب أن تعكس هذه الوحدة نفسها على مستوى علاقات مفتوحة ومتساوية وأخوية بين الأحزاب الشيوعية والعمالية في العالم. كما يجب تعزيز اجتماع الأحزاب الشيوعية والعمالية من خلال جعله أكثر مرونة وأكثر فعالية، وإضفاء الطابع المؤسسي عليه. وتنفيذا لهذه المهمة، تتحمل الأحزاب الشيوعية الحاكمة وما يمكن تسميته مراكز الجاذبية الشيوعية في العالم مسؤولية خاصة، بالإضافة إلى المسؤولية التي يتحملها كل حزب منا.
ونحن في الحزب الشيوعي اللبناني نعدكمباننا سنكرّس كل امكاناتنا من أجل تحقيق هذه المهمة الحاسمة، عبر صياغة برنامجنا الوطني والإقليمي المستند إلى مواجهة المشروع الامبريالي وكيانه الصهيوني والأنظمة الرجعية والاستبدادية الحليفة له وفي مقدمها نظامنا السياسي الطائفي وقوى اليمين ورأس المال الكبير وأدواتها الطائفية والمذهبية، عبر مقاومة وطنية وعربية شاملة وبكافة الوسائل المتاحة، بصفتها حركة تحرر وطني وعربي من نوع جديد تقوم على تجميع وقيادة القوى اليسارية والشيوعية والديمقراطية العربية لهذه الحركة، وهو التحدي المطروح امام اليسار العربي للقيام بدوره التاريخي في بناء دول وطنية علمانية وديمقراطية في المنطقة على طريقالاشتراكية.
عاش كفاح الطبقة العاملة والشعوب المضطهدة
عاشت الاشتراكية
عاشت الأحزاب الشيوعية والعمالية